خلف أسوار العقل
فى إحدى ليالى نوفمبر، فى عام 1966 م، جلس السوفيتى نيكولاييف، داخل حجرة من الرصاص، لا يوجد بها سواه،
وأمامه ورقة صغيرة، خط عليها أحد العلماء - من وحى اللحظة - كلمات غير مترابطة، ورسماً لا معنى له،
راح نيكولاييف يحدق فيهما لحظات، دون أن تسجل أجهزة هيئة العلماء، التى عكفت على مراقبته، فى موسكو شيئاً،
في حين كان زميله كاتشسكى يجلس فى ظروف مماثلة فى ليننجراد، على بُعد ألف كيلو متر من موسكو،
وقد راح يخط الكلمات نفسها، والرسم ذاته على ورقة بيضاء، ناولها لأحد العلماء المجاورين له،
وهو يقول: لست أدرى ما يقصده بذلك، ولكن هذا ما أرسله
وأُصيب العلماء بالذهول، فى موسكو و ليننجراد، فى نفس اللحظة، فلقد استقبل كاتشسكى رسالة عقلية من نيكولاييف،
بمنتهى الدقة، كما لو أن عقله جهاز استقبال لاسلكى فائق التطور
ولكن كيف حدث هذا ؟ ..
بل كيف يمكن أن يحدث ؟
*******
لقد أعلن تلك القصة السالفة الذكر العالم السوفيتى فلاديمير فيدلمان، وهو واحد من أشهر علماء ما فوق الطبيعيات،
فى مؤتمر لبحث الظواهر الخارقة للمألوف، عام 1968 م ولم يحاول وضع تفسير علمى للظاهرة، وإنما أطلق عليها اسم التخاطر العقلى، أو التليباثى
والعجيب أن المصطلح لم يكن جديداً بالنسبة لزمرة علماء الظواهر فوق الطبيعية، الذين حضروا ذلك المؤتمر، بل كان مصطلحاً قديماً، لظاهرة مازالت تثير جدلاً علمياً، حتى لحظة كتابة هذه السطور
فمع مطلع عام 1862 م، وبينما انشغل نصف سكان العالم فى الاحتفال بأعياد رأس السنة الميلادية، أغلق عالم نصف معروف، يدعى ف . مايرز F.Myrs
معمله على نفسه، وانهمك فى سلسلة من التجارب والدراسات المعقدة، استغرقت تسعة أشهر من عمره، قبل أن يخرج إلى العالم بذلك المصطلح الجديد: التليباثى Telepathy
دون أن يتصور أن مصطلحه هذا سيثير أكبر وأطول جدل علمى فى التاريخ،
وأنه وبعد مرور أكثر من قرن كامل على إطلاقه هذا المصطلح، لم ينجح شخص واحد،
أو جهة علمية - صغرت أو عظمت - فى إثبات أو نفى هذه الظاهرة
وكلمة تليباثى، كما تقول القواميس المتخصصة، تعنى التخاطر عن بعد،
أو انتقـال الأفكار، من شخص إلى آخر أو آخرين دون استخدام وسيلة مادية
أو هى ببساطة ظاهرة قراءة الأفكار، كما يطلق عليها العامة
وعلى الرغم من كل ما أثارته ظاهرة التخاطر عن بعد، من جدل، وما أطلقته من خيال العلماء والأدباء، إلا أن التجارب الجادة حولها لم تبدأ إلا فى عام 1921 م،
عندما قام ثلاثة من علماء جامعة جروننجن بسلسلة طويلة من التجارب والمشاهدات، انتهت بإصدار تقرير كبير، اقتنع به عدد من العلماء، ورفضته الغالبية العظمى منهم
ومن العجيب أن تلك الظاهرة تذهب بالعلماء دائماً إلى طرفى نقيض، فإما أن يؤيدها البعض فى حماس، أو يرفضها البعض الآخر فى عناد وإصرار،
ولعل من أعظم مؤيديها العالم البريطانى جوزيف سينل، الذى قضى القسم الأعظم من حياته، فى محاولة إثبات وجود الظاهرة، وهو يقول عنها : إنها تشبه عملية الاتصالات اللاسلكية المعروفة،
فالعقل البشرى يموج بالإشارات الكهربية، التى تنتقل دوماً بين المخ والأعصاب، وتربطه بأعضاء الجسم، وعندما تبلغ هذه الإشارات حداً مناسباً،
يمكنها أن تنتقل دون الحاجة إلى الأسلاك الأعصاب، فتسافر من عقل إلى عقل
أما أشهر العلماء فى هذا المجال، وهو ج.ب.راين فيقول: الأمر عبارة عن نوع من الشفافية الروحانية، التى تتيح للروح الالتقاء بالأرواح الأخرى،
واستنطاقها عما يدور فى أجساد وعقول أصحابها،ولكن هذا الرأى يبدو فلسفياً، أكثر مما يبدو علمياً أو منهجياً، ولهذا السبب رفضه كل العلماء تقريباً،
على الرغم من أن راين هو صاحب أول تجارب مدروسة لفحص الظاهرة، فلقد ابتكر عام 1934 فى جامعة ديوك أسلوباً جديداً، يعرف باسم اختبار أوراق اللعب،
وفيه يحاول الشخص، المفترض اكتسابه للقدرة على التخاطر العقلى، استنتاج ترتيب خمس أوراق لعب مختلفة، يتم ترتيبها عشوائياً
وقد يبدو هذا الاختبار هيناً، ولكنه ليس كذلك فى الواقع، فاحتمال استنتاج موضع ورقة واحدة، أو تخمينه،
هو واحد إلى خمسة أما احتمال استنتاج موضع الأوراق الخمسة هو واحد إلى ثلاثة آلاف ومائة وخمس وعشرين،
وهذا يجعل التخمين مستحيلاً بالطبع
****
ولعل من أكثر ما يؤيد وجود هذه الظاهرة، رجل يحفظ كل دارسى الظواهر فوق النفسية اسمه عن ظهر قلب،
وهو الهولندى بيتر هيركوس، الذى ولد عام 1911 م، وظل يحيا كشاب عادى،
حتى انقلبت حياته رأسه على عقب فجأة فى عام 1941 م
فى ذلك العام كان بيتر يعاون والده فى طلاء بناء من أربعة طوابق، عندما زلت قدمه، وسقط من الطابق الرابع،
وتم نقله إلى المستشفى فى سرعة، فى العاشر من يوليو 1941 م، حيث تم إسعافه،
وقدر له أن ينجو، وأن يغادر المستشفى فى الخامس من أغسطس، من العام نفسه
ولكن شتان ما بين الدخول والخروج
لقد كشف بيتر، وهو يرقد على فراشه فى المستشفى أنه قد اكتسب خاصية عجيبة وهى أنه ما إن يمس شيئاً .. أى شئ ..
حتى تندفع إلى رأسه كل المشاهد والأصوات والأحداث، التى عايشها هذا الشئ ..
جماداً كان أو حيواناً أو نباتاً
وكاد المسكين يُصاب بالجنوب فى البداية
بل لقد تصور أنه قد أُصيب به بالفعل
ثم اتضحت له حقيقة موهبته الجديدة شيئاً فشيئاً
والعجيب فى ظاهرة هيركوس أنه، ولأول مرة فى التاريخ اعترفت إدارة اسكوتلانديارد بموهبة شخص يحوز صفة فوق طبيعية،
بل استدعت بيتر هيركوس إلى إنجلترا عام 1951 م، حيث عاون مفتشيها على حل غموض اختفاء الماسة الشهيرة سكون، وبعدها استعانت به عدة هيئات بوليسية أوربية، وحقق فى كل مرة انتصاراً مبهراً
وعلى الرغم من هذا لم يحظ بيتر باعتراف أو تأييد الأوساط العلمية، ولم يحاول عالم واحد، ممن أنكروا موهبته،
اختبار وجود هذه الموهبة، بأية وسيلة، حتى أن الصحفية نورما - لى - براوننج التى كانت من أشد المؤيدين لـ بيتر،
قد علقت على هذا بقولها : لقد خسروا فرصة مثالية لفحص ظاهرة غامضة.. وهى على حق، فربما أدى فحص بيتر هيركوس إلى إماطة اللثام عن تلك الظاهرة
ولكن يبدو أن البعض يخشى إماطة هذا اللثام
وهذا أيضاً صحيح..